الفكر الإسلامي
السببُ
في الزهد في الاهتمام بالمستحبّات
بقلم
: الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف
بـ Kحكيم
الأمةJ المتوفى 1362هـ /
1943م
تعريب : أبو أسامة نور
أيها الإخوان
! أعتقد – حسب ما يهتدي إليه تفكيرى العاجز – أنّ علاقتَنا بالله تعالى أصبحتْ
رسميَّةً فقط ؛ لذلك لانتهمُّ بما وراءَ الواجبات والفرائض من النوافل والمندوبات ،
وعُدْنَا نراها لا حاجةَ بنا إليها . ولو كانت علاقتُنا بالله نابعةً من الحبّ
والفداء ، لما اكْتَفَيْنَا بالفرائض والواجبات وحدَها ، وإنما رُحْنَا نبحث عن
غيرها من المندوبات والمُسْتَحَبّات ، ولبَادَرْنا مدفوعين برغبة صادقة إلى كل ما
علمناه يحبّه الله ويرضاه ، ولسارعنا إلى اجتناب كل ما علمناه يكرهه تعالى ؛ لأن
المحبّ يكفيه أن يَتَحَـاشَى عــن كل ما يعلـم أن الحبيب يكرهــه ، ولا يبحث عــن
أن كراهتَه لــه بلغ أنه قَرَّرَ لمن يأتيــه ويرتكبه الضربَ والحبس أو أنه يكرهه
فقط لحدّ السخط لحدّما ولحد الإعراض عنه ؛ لأن كلا النوعين للكراهية سواء عنده ؛
حيث إنه لن يتحمَّل أن يَسْخَط حبيبُه أو يحْزَن أو يُعْرِض . أمّا إذا كانت
الكراهيةُ من قِبَل الحبيب لشيء ما لحدِّ أنه يكون قد قَرَّر عقابًا لمن يقترفه،
الضربَ والحبسَ، فإنه لن يَقْرَبَه أبدًا .
أمّا نحن فقد
صِرْنَا إلى أنّه إذا قيل لنا : إنه عملٌ فيه ذَنْب ، نسائل : هل هو من نوع
المعاصي الكبيرة أو المعاصي الصغيرة؟ ومعنى ذلك أننا إذا عَلِمْنا أن العمل عملُ
معصية صغيرة فسنأتيه ولا نجتنبه . وذلك يدلّ بوضوح أن علاقتَنـا بالله قــد
ضَعُفَتْ لحــد كبيــر ، وإن لم تكن قد انتهتْ أو انقطعتْ ؛ لأن مُسَاءَلَتَنا هذه
هي الدليلُ على أننا لانزال على علاقة بالله تعالى . وإن هؤلاء الضعفاءَ العلاقة
بالله نحن نناصرهم ونقف بجانبهم ، ونريد أن نُؤَكِّد أنه يجب أن لا يُعْتَبرُوا
غيرَ مُتَعَلِّقِين بالله ؛ لأنهم يتعلقون به تعالى لحدِّ أَنَّهم لايرضون أن
يُسْخِطُوا اللهَ تعالى ؛ لأنهم لو لم يكونوا مُتَعَلِّقِين به ولا لهذا الحدّ لما
سَاءَلُوا : هل في ذلك معصيةٌ كبيرة أو معصيةٌ صغيرة ؟؛ فعُلِم أنهم يَتَّقُــون
المعاصيَ الكبيرةَ التي تُغْضِب الله كثيــرًا ؛ لكن علاقتَهم غيــرُ قويّة ، فهم
يتحمَّلون غضبَه القليلَ . على كلٍّ فالمُسَاءَلَةُ هذه دليلٌ على العلاقة وعلى
ضعفها في وقت واحد .
تعزيزُ العلاقة باللّه
حديثى هذا
سيَسُرُّ الذين يختلج في قلوبهم سؤالٌ نحو كون المعاصي كبيرةً وصغيرةً ؛ حيث أثبتا
أنهم أيضًا على علاقة بالله تعالى . ولا شَكَّ أن ذلك مبعثُ مسرَّة بذاته ؛ لأنهم
كانوا في خسارة أيِّ خسارة إذا لم يكونوا على هذا المستوى الأدنى من العلاقة بالله
.
ولكنه يجب أن
يُلاَحِظوا أنه لا تجوز لهم القناعةُ بمجرد العلاقة . أَوَ هل نقتنع ، فيما يتعلق
بعلاقتنا بعضنا ببعض ، بمجرد العلاقة ؟ لا، لانقتنع ولن نقتنع ؛ بل إن كُلاًّ منّا
يودّ أن تتعزّز علاقتُنا بعضنا ببعض بشكل أقصى . إن ما يكون بين أحد و زوجته من
العلاقة التي هي ضعيفةٌ لحدّ أنّها تقوم بكلمتين : الإيجابِ والقبولِ ، وتنتهي
بكلمةٍ وهي التلفُّظ بالطلاق، لم نجده يقتنع بمجرد هذه العلاقة ؛ بل إن كلَّ واحد
منّا يودّ أن تكون علاقةُ زوجته به وحبُّها له على غاية من المتانة ؛ ولذلك
لايكتفي بتوفير حوائجها اللاّزمة وإنما يقوم – إرضاءً لها – بكل شيء يُسَبِّب لها
غايةَ المسرّة ، ويُهَيِّئ لها من الحلّي والملابس ما يكون فوقَ مستوى حقِّها ،
وإنما يصنع ذلك تحقيقًا لمصلحته هو، وهي أن يَكسب رضاها الكاملَ وودَّها البالغَ
وأن تَتَعَزَّزَ علاقتُها به وحبُّها له . ولو اكْتَفَى المرأُ بالقدر الرسميّ من
علاقته بزوجته واكْتَفَتِ المرأةُ بالحدّ الرسميّ من علاقتها بزوجها ، لما كانت
على هذه العلاقة مسحةٌ من اللَّذَّة ، ولكانت هناك مخافة قائمة من انقطاعها .
إن العلاقة
لن تدوم إلاّ إذا صَاحَبَها تدبيرُ تعزيزها والاهتمامُ بتمتينها . إن المرأ لايجب
عليه صنع حليّها وملابسها الحريريّة ، ولا ماوراءَها من الأدوية والمعالجة ، ولا
استضافة أعضاء أسرة أبويها ؛ ولكنه يصنع ذلك كلَّه عن رضا وطواعية لتعزيز العلاقة
القائمة بينهما ، ويَتَوَخَّىٰ كسبَ رضاها من وراء كل عمل يقوم به ، على حين
إنك قد عَلِمْتَ آنفًا أن العلاقةَ القائمةَ بينهما ضعيفةٌ للغاية ، ورغمَ ذلك
كلٌّ يكره الكراهيةَ كلَّها انقطاعَها . وما أَشَدَّ الحزنَ الذي يلحقهما – الزوج
والزوجة – لدى انقطاعها إذا حَدَثَ ، ولاتِّقاءِ الانقطاع تُتَّخَذ هذه التدابيرُ
كلُّها لتعزيز العلاقة القائمة بينهما . فما أَعْجَبَ أن لا نكتفي بمُجَرَّد
العلاقة فيما يتعلق بهذه الرابطــة التي هي ضعيفةٌ للحدّ الكبير الذي أَبَنْتُه
آنفًا ؛ بل يَسْتَحْوِذ علينا الاهتمامُ بتدعيمها لئلاّ تنقطع ؛ ولكنّنا نكتفي
بمجــرد العلاقــة بالله ، على حين إنها من القــوة بـالمكان الذي لا تُدَانِيه
علاقةٌ في الكون ؛ فلماذا لا نهتمّ تبدعيمها ، ونقتنع بمجرد وجودِها ، ولماذا لا
يَسْتَحْوذِ علينا التفكيرُ في أن بقاءَ العلاقة يَتَوَقَّف على تدعيمها ، ولن
تبقى إذا كانت قائمةً في إطار مُجَرَّد وجودها، لأنّها عندئذ مُعَرَّضَة لخطر
الزوال والانقطاع ؛ فهل يرضى أحدُنا أن تنقطع علاقتُه بالله ؟ كلاّ!. فلماذا
لانهتمّ بتعزيزها حتى تدوم .
ولقد أجادَ
الشيخُ جلال الدين الروميّ (604- 672هـ = 1207-1273م) عندما قال في شعره الفارسيّ
ما معناه :
«إن هــذا
الذي لايصبـر عن الأولاد والزوجة ، كيف يصبر عن الربّ ذي المِنَن ، ولايصبر عن
الدنيا الدنيّة، فكيف يصبر عن الله نِعْمَ الماهدون» .
وا أَسَفىٰ
لا نكاد نصبــر عن الأشيـاء التافهة ، ولكنّ الناس كيف صبروا عن الله عزّ وجلّ .
إننا لانتحمل ضعفَ العلاقة بالأمور المتواضعة ، ولكننا لا نَتَأَلَّم ولو قليلاً
من ضعف العلاقة بالله العزيز القويّ .
لاشَكَّ أن
العلاقةَ بالله ولو كانت ضعيفةً نعمةٌ ، ولكن القناعة بها ظلم كبير . إن هناك من
رَضِيَ حتى بفقــدان العلاقة بالله وهم الكفّار ؛ ولكنهم لايعنوننا الآن ؛ ولكنه
يعنينا الآن أنفسنا نحن المسلمين الذين رضينا بالعلاقة الضعيفة بالله ، إنّه شيء
مُدْهِش حقًّا ، وذلك الموقف هو الذي جَعَلَنَا لانهتمّ بالمندوبات ، ولا نـراها
ذاتَ قيمة كبيرة . وإني أتحدّث عن نفسي ، فأقول : كنتُ في صِبَايَ متقيِّدًا بكثير
من المستحبات والنوافل ؛ ولكني قرأتُ كتاب «منية
المصلي» فعلمتُ
أنّها مستحباتٌ لا ذنبَ في تركها ، فمنذئذ تركتُها ، وما انتبهتُ ما صنعتُه بتركها
؛ ولكني الآن أعلم أن هذا الموقف مني من النوافل كان موقفًا سيئًا للغاية ؛ لأن
ذلك يعني أننا نريد أن لانتعلق بالله إلاّ في الإطار الرسميّ ، فنكتفي بأداء
اللوازم والفرائض وحدَها ، أفهل يمكننا أن نصنع ذلك مع مربينا في هذه الدنيا ، فلا
نؤدّي تجاههم إلاّ خَدَماتٍ واجبةً ، كلا ! إننا بعضَ الأحيان نؤدّي تجاههم كثيرًا
من الخدمات غير الواجبة نظرًا للمصالح أو اندفـاعًا وراء حبّنا لهم ؛ فهل الله عزّ
وجلّ لايستحــق منّا ما يستحقّــه حتى مُرَبُّونا ومشايخُنا ؟ أفلا نُوَفَّق أن
نتعامل ولو قليلاً مع الإنصاف . فما الذي جَعَلَنا نكتفي بالقدر الواجب فيما يتّصل
بعبادة الله ولا نرى العبادات غير الواجبة ذات أهميّة؟ .
* * *
* *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1428هـ = ديسمبر
2007م يناير 2008م ، العـدد : 12 ، السنـة : 31.